الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن ولاه وبعد :
لما كان المراد الأسمى ، والغاية العظمى ، من معرفة الوقف والابتداء إيصال كلام الله تعالى وفق مراده ، متضمنا ذلك وضوح المعاني ، وتعريف المقاصد ، وإظهار الفوائد ، تُعين حينئذ أوقاف لو وصلت بما بعدها ما استقام المعنى ، وما اتضح المغزى ، بل وقد يختل المبنى ، ومع ذلك قد يوهم وصلها معنى آخر غير المقصود , وهو ما عبر عنه العلماء باللازم ، وعبر عنه آخرون بالواجب .
قال ابن الجزري :
" إن من الأوقاف ما يتأكد استحبابه لبيان المعنى المقصود , وهو لو وصل طرفاه لأوهم معنى غير المراد ، وهذا الذي اصطلح عليه السجاوندي لازم , وعبر عنه بعضهم بالواجب "

أما بالنسبة لمواضع الوقف اللازم في القرآن الكريم فهي متعددة ، منها ما اتفقت طبعات المصاحف على لزومها، ومنها ما اختلفت فيها، كما أن هناك طبعات انفردت بمواضع عن الأخرى، كل حسب وجهته وحسب مرجعيته في ذلك من كتب الوقف والابتداء .
ونحن في هذا الموضوع لن نناقش هذه المواضع موضعا موضعا لنبين كونه من باب اللازم أم لا , ولكن سأضع ضوابط لرفع الوهم عن هذه المواضع ،ممثلا لكل ضابط بعدة مواضع ، فما دخل تحت هذه الضوابط فليس من الوقوف اللازمة والعكس ، ولكن قبل أن نبدأ لابد من مقدمة فيها اصطلاح اللازم وأنواعه .
أولا :
تعريفه :

هو الوقف على كلمة لو وصلت بما بعدها لأوهم وصلها معنى غير المراد .
ومن أمثلته الوقف على لَهُ وَلَدٌ من قوله:
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ [مـ] لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً, (النساء:71 ) .
فالوقف هنا لازم لأن في وصله بما بعده إيهام بأن قوله : لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ صفة لولد ،وهذا يفيد تنزيه الله تعالى عن الولد الموصوف بأنه يملك ما في السماوات وما في الأرض ، وليس كذلك .بل المراد تنزيه الله تعالى عن اتخاذ ولد أيا كان شأنه ، فجملة لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ جملة مستأنفة مسوقة لتعليل تنزيهه تعالى عن الولد ، وبيان أنه مالك لجميع الموجودات ، علويها وسفليها ، لا يخرج من ملكوته شيء فيها ، ومن كان كذلك استحال عليه أن يكون له ولد( معالم الاهتداء للحصري )
أما عن أنواعه فهو يأتي في قسمي التام والكافي وربما يجيء في الحسن ، كذا صرح به في النشر ، واختصه بعضهم بالتام بل وجعله قسما من أقسامه وسماه وقف البيان التام ، والظاهر أنه لا يأتي إلا في الكافي فقط ، وما مثل به ابن الجزري لقسم التام وهو قوله تعالى : "وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ [مـ] إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (يونس:65)
فليس من باب التام لأن جملة : " إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً " وإن كانت مستأنفة غير أنها متصلة في المعنى بما قبلها ، فالجملة مسوقة لتعليل ما سبق ، فالمعنى ولا يحزنك يا محمد قولهم المتضمن التكذيب لك ، والطعن فيك ، والقدح في دينك ، ثم علل ذلك بقوله إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً" فينهما ارتباط معنوي وثيق ، ومعلومٌ أن ضابط الوقف التام أن يكون منفصلا عما قبله لفظا ومعنى .
وكذلك ما متل به للحسن وهو قوله : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (المائدة :27)
فوجهة لزومه لئلا يوهم الوصل أن إِذْ متعلقة بالفعل وَاتْلُ فيصير المعنى : اتل خبر قابيل وهابيل في وقت أن قربا قربانا ، وهو محال والصواب أن إِذْ متعلقة بـ نَبَأَ
والمعنى : واتل عليهم يا محمد خبر ابني آدم الحاصل وقت تقريبهما قربانا .
وهذا ليس من باب اللازم أيضا ووقوع الإيهام حال الوصل هنا مستبعد لا يقع في ذهن القارئ ، والقول بورود اللازم في الحسن غير سائغ .
فالوقف الأول من اللازم ولكنه ليس من التام بل يدخل في قسم الكافي ، والوقف الثاني حسن ولكنه ليس من اللازم
ضوابط الوقف اللازم
الضابط الأول
هو أن يكون في وصل الكلام بما بعده رفع للوهم الناشئ من الوصل .

ولإيضاح الكلام أقول :
1- قوله تعالى :
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (الأنعام: 36)
قيل أن الوقف على يَسْمَعُونَ لازم، لأن في وصله بما بعده إيهام بأن الموتى يشتركون مع الأحياء في صفة الاستجابة وليس كذلك.
أقول والصحيح أن هذا الوقف لا يعد من باب اللازم ، لأن حاصل الوهم الناشئ من الوصل يكون بالوقف علىوَالْمَوْتَى ، لكن لو وصل القارئ الكلام بعضه ببعض بأن يصل إلى آخر الآية ما وقع الوهم وما لزم الوقف .
وخير دليل على ذلك ما ذكره الداني _ _ في المكتفى حيث قال :
" وكذلك يلزم أن يقطع على الآية التي فيها ذكر الجنة والثواب ،ويفصل مما بعدها أيضا إن كان بعدها ذكر النار والعقاب ،وذلك في نحو قوله : بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (البقرة:1 8 ) هنا الوقف ولا يجوز أن يوصل بقوله : وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ( البقرة :82 ) ويقطع على ذلك ويختم به الآية .
ومثله : وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (غافر: 6) هنا التمام ، ولا يجوز وصل ذلك بقوله : الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ (غافر: 7) ويقطع عليه ويختم الآية ،وكذلك : يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ (الإنسان:31 ) هنا الوقف ، ولا يجوز أن يوصل ذلك بقوله وَالظَّالِمِينَ ، ويقطع على ذلك ، وكذلك ما أشبهه" .
فإنه _ _ ألزم الوقف ولم يجوز الوصل حال الوقف على ما ذكره ، ولكن لو لم يقف القارئ على ذلك ، ووصله بما بعده ما وقع الوهم وما لزم الوقف .
قال المرعشي _ _ بعد أن ذكر كلام الداني السالف ذكره : فالوصل في هذه المواضع يوهم معنى فاسدا فيحرم إن تقرر الوهم بسبب القطع على ما ذكره ، فلو لم يقطع على ما ذكره ، لارتفع الوهم فلا يحرم الوصل ، فلو لم يقطع على وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ (البقرة: 82)
بل وصله بقوله أُولَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (البقرة :82) ،لاندفع الوهم الحاصل من وصل وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بما قبله ، وكذا في المثالين الآخرين .
ولك أن تتأمل حديث النبي لما جاءه رجلان فتشهد أحدهما فقال من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما، فقال له رسول الله قم بئس الخطيب أنت
وإنما قال له النبي ذلك لأنه جمع بين حال من أطاع ومن عصى ، ولو وصل الكلام بما بعده فقال من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى ،ما فسد المعنى، وما أقامه النبي .
قال الداني _ _ معلقا على الحديث :
"........ وإنما كان ينبغي له أن يقطع على قوله : فقد رشد، ثم يستأنف ما بعد ذلك ،أو يصل الكلام إلى آخره فيقول ومن يعصهما فقد غوى"
وما أسلفنا من كلام الداني وغيره برهان كاف شاف لما عليه البيان الأول .
ومن الأمثلة أيضا قوله تعالى لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ (الرعد: 18).
قيل أن الوقف على الْحُسْنَى لازم _ وهو من المواضع التي انفردت به طبعة الأزهر الشريف _ لأن في وصله بما بعده إيهام بأن الْحُسْنَى تتحقق للذين استجابوا لربهم والذين لم يستجيبوا كذلك ، فيجعلهما مشتركين في الثواب ، وليس كذلك ،بل الموصول مرفوع بالابتداء ، وخبره الجملة الشرطية لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ .
ولا يعد هذا أيضا من باب اللازم لأن حاصل الوهم هنا يكون بالوقف على وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ .
لكن وصل الكلام بما بعده فيه رفع للوهم ، فلو قرأ القارئ " لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ لما وقع الوهم وما لزم الوقف .
ومن أمثلته أيضا قوله تعالى :
رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (إبراهيم: 36).
قيل بأن الوقف على فَإِنَّهُ مِنِّي لازم لأن في وصله بما بعده جمع لحال من اتبع إبراهيم ومن عصاه ، وليس كذلك ، بل المعنى : فمن اتبعني فإنه من أهل ديني ومن عصاني فلم يتبعني فإنك غفور رحيم .
وأقول في ذلك مثل ما قلت في سابقيه من أن حاصل الوهم يكون بالوقف على وَمَنْ عَصَانِي ،
لكن لو وصل القارئ الكلام بما بعده ووصل إلى آخر الآية ما وقع الوهم وما لزم الوقف .
ثم إن هذه الوقوف تكون مسوغة لكثرة الوقوف اللازمة في القرآن الكريم دون داع إلى ذلك ، إذ ما الفرق بينها وبين قوله تعالى :
الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ (النساء:76 ) ،هنا الوقف لأن في وصله بما بعده وهو قوله: وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ (النساء:76 ) إيهام بأن الذين كفروا يقاتلون في سبيل الله وليس كذلك ، وحاصل الوهم هنا يكون بالوقف على قوله وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وعلى الرغم من ذلك لم يقل أحد بلزوم الوقف هنا .
وكذلك قوله تعالى :
1- وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ9 وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا * أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (المائدة :109 ).
2- قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ * فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ (الأنفال: 38).
3- وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ * إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (إبراهيم:7) ,
4- الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ * لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (فاطر: 7 ).
فالوقف علىعَظِيمٌ ، و قَدْ سَلَفَ ، و لأَزِيدَنَّكُمْ ، و شَدِيدٌ يكون لازما قياسا على الأمثلة السالفة الذكر، ولم يقل أحد بذلك .
الضابط الثاني
إذا كان الإيهام الواقع بسبب الوصل يوحي بتناقض ، وهذا التناقض كاف لرفع الوهم .

وذلك نحو قوله تعالى :
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ (المائدة: 64).
ففي الآية الكريمة وقفان لازمان .

الأول: الوقف علىمَغْلُولَةٌ _وهو من المواضع التي انفردت بها طبعة الأزهر الشريف_ وكونه لازما حتى لا يتوهم أن قوله: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ، من كلام اليهود ، وليس كذلك بل هو من كلام الله ردا عليهم ،و الإيهام هنا بعيد لاختلاف الجملتين الاسمية والفعلية ، هذا من ناحية الشكل ، أما من ناحية المعنى فلا يعقل أن يدعوا اليهود على أنفسهم حتى يتوهم السامع أن هذا من قولهم.
الثاني : الوقف على بِمَا قَالُواْ وهو من الواضع المتفق علي لزومها بين طبعات المصاحف وسبب لزومه هو أن وصله بما بعده فيه إيهام أنه من كلام اليهود، وليس كذلك، بل هو من كلام الله ردا عليهم ، وهذا الإيهام مستبعد أيضا ، إذ كيف يقول اليهود في صدر الآيةيَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ ثم يقولون بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ، ؟! حتى يتوهمه السامع .
فالإيهام في مثل هذا يوحي بتناقض هذا التناقض كاف لرفع الوهم .
قوله تعالى :
لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ (المائدة: 73).

فالوقف على ثَلاَثَةٍ لازم _وهو من المواضع المتفق علي لزومها بين طبعات المصاحف_لأن في وصله بما بعده إيهام بأن جملة وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ من كلام النصارى القائلينإِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ ، وليس كذلك ، بل هو من قول الله ردا عليهم .
وهذا الإيهام مستبعد أيضا، والتناقض هنا واضح ، إذ أنه لا يعقل أن يقول النصارى في صدر الآية إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ , ثم يقولون وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ ، حتى يتوهم السامع ذلك. فما ذكروه من إيهام فيه إيحاء بالتناقض ، وهذا كاف لرفع الوهم .
-قوله تعالى :
وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ (الأنعام :124).
فالوقف هنا على قوله رُسُلُ اللّهِ ، لأن في وصله بما بعده إيهام بأن قوله اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ من جملة كلام المشركين وليس كذلك ،بل هو من قول الله ردا عليهم
أقول وهذا الإيهام يوحي بتناقض كاف لرفع الوهم ، إذ أنه لا يعقل أن يقول المشركون في صدر الآية لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ ثم يقولون اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ حتى يتوهم السامع ذلك .

الضابط الثالث :
هو أن الإيهام الحاصل من الوصل يكون مستبعدا لا يقع في ذهن القارئ .
وذلك كما جاء في الوقوف اللازمة المتعلقة بالجمل الشرطية .

وذلك في نحو :
1- قوله تعالى :
وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ(النحل :41 )
فالوقف على أَكْبَرُ لازم ؛ حتى لا يتوهم أن أجر الآخرة مشروط بعلمهم وهو محال .وجواب لَوْ محذوف، والتقدير: لو كانوا يعلمون لما اختاروا الحياة الدنيا على الآخرة . منار الهدى .
وقيل إن الضمير في يَعْلَمُونَ راجع إلى المؤمنين أي : لو رأو ثواب الآخرة وعاينوه لعلموا أنه أكبر من حسنة الدنيا. فتح القدير
2- ومثله قوله تعالى :
قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ (الشعراء: 24)
فالوقف هنا لازم ؛ وسبب ذلك حتى لا يتوهم أن ربوبيته مشروطة بإيقانهم ، وهذا محال ،
وجواب إن محذوف والتقدير: إن كنتم موقنين بشيء من الأشياء فربوبيته أولى بالإيقان .منار الهدى .
3- وكذلك قوله :
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ (4)(الدخان :7 ) ,
ويقال فيه ما قيل في سابقه
4- وكذلك قوله :
كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ( القلم: 33) .
فالوقف على أَكْبَرُ لازم ، وتعليل ذلك أنه لو وُصل بما بعده لصار قوله وَلَعَذَابُ معلقا بشرط لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وليس كذلك ، فجواب لَوْ محذوف ، والتقدير: لو كانوا يعلمون لما اختاروا الأدنى. منار الهدى
ولقد رجح الدكتور عبد الكريم صالح في هذه الوقوف أنها ليست من باب اللازم ، غير أنه لم يعلل لذلك تعليلا صحيحا حيث قال :"
ولكن الرأي الراجح والذي أميل إليه أن الوقف على الكلمات السابقة وقف كاف وذلك لأن الجملة الشرطية بعد الجمل السابقة متعلقة بها من جهة المعنى " .الوقف والابتداء وأثرهما في المعنى
وهل التعلق المعنوي ينفي الوقف اللازم ؟! .
أو كون الوقف كافيا يكون سببا لرفع الإيهام الحاصل ؟! .
بل الثابت أن أغلب الوقوف اللازمة متصلة بما بعدها في المعنى ، وكما أسلفنا فإن اللازم يدخل في قسمي التام والكافي بل وأغلب ما يكون فيه .
فتعليله في رفع اللزوم عن هذه الوقوف ضعيف ، ويكفي في ذلك أن الإيهام الحاصل من الوصل مستبعد لا يقع في ذهن القارئ أو السامع .
ومما يدلل على عدم إلزام الوقف على هذه المواضع قوله تعالى : " وإنه لقسم لو تعلمون عظيم " ، فلو جاز توهم أن يكون القسم مشروطا بعلمهم لما جاز التقديم والتأخير هنا .
قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ( المائدة: 51) .
فالوقف على أَوْلِيَاء لازم، ووجه لزومه حتى لا يتوهم أن بَعْضُهُمْ صفة لـ أَوْلِيَاء , فيكون النهي عن اتخاذ أولياء صفاتهم أن بعضهم أولياء بعض ، فإذا انتفى هذا الوصف جاز اتخاذهم أولياء وهو محال ، وإنما النهى عن اتخاذهم أولياء مطلقا .
وهذا الإيهام بعيد لا يقع في ذهن القارئ ،وهل يتوهم أحد أن النهي عن اتخاذ أولياء صفاتهم أن بعضهم أولياء بعض، والرفع في قوله بَعْضُهُمْ كاف لرفع الوهم .
6-وكذلك الوقف على بَعْضٍ من قوله :
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ
فالوهم الحاصل من الوصل وهو أن جملة يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ تكون صفة لـ بَعْضٍ مستبعد لا يقع في ذهن القارئ .
7- الوقف على يَتَفَكَّرُواْ من قوله :
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( الأعراف: 184).
لأن في وصله بما بعده إيهام بأن مَا هنا موصولة فيتغير المعنى ويظن أن جِنَّةٍ وصف للنبي e, وليس كذلك ؛ بل أن مَا هنا للنفي ، واسمها مِّن جِنَّةٍ وخبرها بِصَاحِبِهِم والمعنى : ليس بصاحبهم شيء مما يدعونه.
وقيل: هي للاستفهام الاستنكاري , وقعت في محل رفع مبتدأ والخبر بِصَاحِبِهِم ، والجنة مصدر ، أي وقع منهم التكذيب ، ولم يتفكروا أي شيء من جنون كائن بصاحبهم كما يزعمون ، فإنهم لو تفكروا لوجدوا زعمهم باطلا وقولهم زورا وبهتانا.فتح القدير
وهذا الإيهام مستبعد أيضا لا يقع في ذهن السامع ، ولزوم الوقف هنا فيه مبالغة.

ثم اعلم - أيدك الله بتوفيقه - أن ما ذُكر من ضوابط لرفع اللزوم عن بعض الوقوف إنما هو إشارة إلى عدم حرمة الوصل ، لكن مع كون الوقف أولى .

الكاتب / الأستاذ الفاضل أحمد نجاح